تفاعلات التحديث في العثمانية- بين الأوربة والأسلمة

تفاعلات عصر التنظيمات
لقد شهد عصر التنظيمات العثمانية سجالاً تاريخياً عميقاً، وتفاعلاً شاملاً ومستمراً مع عملية التحديث وما صاحبها من تطورات وامتدادات، وكذلك مساراتها وما أفرزته من تداعيات على مدار قرنين من الزمن، حيث تجسدت خلالهما ضروب من التحولات التاريخية العميقة الأثر.
إن حركة التجديد و"التغريب" التي شهدتها الدولة العثمانية تزامنت بشكل لافت مع مثيلاتها في كل من مصر وإيران، وتشابهت في بعض جوانبها وسياقاتها. بيد أن التجربة التركية تعتبر الأكثر شمولاً وتطرفاً بين هذه التجارب التحديثية. حتى تجربة مصطفى كمال باشا في التحديث والعلمنة والتوجه نحو الغرب لم تكن قطيعة جذرية، بل كانت استمراراً طبيعياً لمشروع التحديث العثماني الذي تبناه السلطان محمود الثاني ونجله السلطان عبد المجيد، وكذلك رجال التنظيمات.
لقد أظهر مصطفى كمال باشا والجيوش العثمانية تحت قيادته براعة فائقة في إلحاق الهزيمة بالقوات البريطانية المنقولة بحراً في جناق قلعة (غاليبولي)، حيث تكبدت بريطانيا خسائر فادحة لم تشهدها من قبل في تاريخ الإمبراطورية البريطانية. وتم بفضل ذلك تحرير الأناضول من احتلال القوى الأوروبية، وإسقاط معاهدة سيفر المجحفة التي كانت ترمي إلى تقسيم الأناضول بين القوى الغربية من طليان وفرنسيين ويونانيين وأرمن، فضلاً عن تدويل الممرات المائية الحيوية (مضيق البوسفور وبحر الدردنيل).
لقد حظيت المؤسسة العسكرية التركية بالنصيب الأوفر من عملية التحديث العثمانية، وذلك بهدف الدفاع عن بقاء الإمبراطورية، كما حظيت باهتمام مماثل في عملية التحديث ما بعد العثمانية، تلبية لمتطلبات انضمام تركيا إلى الأحلاف الغربية. وقد رسخ ذلك الدور المحوري للمؤسسة العسكرية في مسيرة الجمهورية التركية حتى يومنا هذا. وبالمثل، ترسخت مكانة الدولة وجيشها في أعماق الوجدان التركي، حتى بات الدعاء المأثور لدى الأتراك: اللهم احفظ لنا الدين والدولة!
فواعل حركة التحديث
منذ انطلاق عصر التنظيمات، وعبر تتبع مساراته وتفاعلاته المتنوعة، تبلورت فواعل "بنيوية" متعددة الأوجه في عملية التحديث والتفاعل مع التحديات التي فرضها التفوق الغربي الحديث:
- دائرة القيادة وصنع القرار التي كانت ترزح تحت وطأة تداعيات المسألة الشرقية، وهيمنة النزعة الإمبريالية الأوروبية، فضلاً عن التفوق الغربي "الراهن" على الأصعدة العسكرية والاقتصادية والسياسية، وما استلزمه ذلك من ضرورة صياغة استجابة فعالة لهذه التحديات المصيرية.
- القوى والأوساط التقليدية التي تضررت من عملية التحديث أو تعرضت لصدمات ناتجة عنها، وعارضت مساعي التغيير بدافع الحفاظ على مصالحها، أو نتيجة للجهل، أو بسبب التداعيات الصعبة للتحديث.
- المنادون بأيديولوجية التغريب والتماهي التام مع النموذج الأوروبي والثقافة الغربية بكل تجلياتها العلمانية والليبرالية والقومية والدستورية.
- الشرائح والنخب المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالغرب، والتي يمكن اعتبارها طابوراً خامساً أو أقليات ناقمة على المجتمع، والمرتبطة بأجهزة الاستخبارات الأجنبية، أو أصحاب المصالح ووكلاء الشركات الأوروبية، وكذلك الملتحقون بالسوق الرأسمالية.
- دعاة التحديث والأسلمة: وهم المفكرون والمثقفون والعلماء الذين دعوا إلى استيعاب التحدي الغربي الحديث ونقد الفكر الغربي، وطرح استجابة تعتمد على التجديد الديني والفكري والثقافي.
تسلط هذه المعالجة "الفكرية" الضوء على نخبة من المفكرين، سواء من دعاة "التغريب" والتماهي مع الغرب، أو من دعاة التحديث والأسلمة.
لقد ارتبط التوجه نحو أوروبا ارتباطاً وثيقاً بالتقدم العلمي والصناعي، وما استُحدث من دساتير وأنظمة سياسية متطورة، وحياة برلمانية فاعلة، وفصل بين السلطات، ومساحات واسعة من الحريات، وازدهار الصحافة. إلا أن مظاهر الحداثة وتأثيراتها لا تقتصر على الصناعة والسياسة، بل تشمل الفلسفة والفكر والرؤى الكونية والثقافة والآداب والفنون والتعليم، وكذلك الجوانب الاجتماعية (كتحرير المرأة والنهوض بالطبقات الاجتماعية المهمشة)، وغير ذلك من الجوانب التي استرعت انتباه المراقبين للخبرة الأوروبية.
دعاة الأوربة والتماهي
بعيداً عن الاستغراق في استعراض شامل لجميع المفكرين الذين تبنوا هذا الاتجاه، نجد اللبناني شبلي شميِّل (1850-1917) كواحد من أبرز رواد الدعوة إلى التغريب والاستجابة الكاملة للثقافة الغربية. كان شميّل قد سافر إلى فرنسا في منتصف سبعينيات القرن التاسع عشر، وتعمقت لديه فكرة أو "نزعة" تتعلق بالنشوء والارتقاء لداروين، أو ما يُعرف بنظرية التطور، وقام بنقل شرح الطبيب والفيلسوف الألماني لودفيغ بُخنر (1824-1899) لهذه النظرية إلى اللغة العربية.
وبذلك، كان شميّل أول من نقل هذه النظرية إلى اللغة العربية، وذلك قبل ترجمة إسماعيل مظهر لكتاب تشارلز داروين "أصل الأنواع". وقد كتب شميّل رسالة بعنوان "شكوى وأمل" إلى السلطان عبدالحميد الثاني، ضمنها انتقادات لاذعة للوضع القائم في الدولة العثمانية، مشيراً إلى افتقادها للعلم والعدل والحرية، ومؤكداً أن كلاً من "الحكمَ الديني" و"الحكم الاستبدادي" هما نظامان فاسدان؛ لأنهما يتعارضان مع الطبيعة ولا يستندان إلى أسس صحيحة؛ فالأول يعتمد على السلطة لمنع النمو السليم للعقل البشري، والثاني لا يعترف بحقوق الأفراد، وكلاهما يؤدي إلى الجمود الفكري ويعيق التقدم.
كما كان شميل من القيادات البارزة في حزب "اللامركزية" العثماني، والذي ضمّ أيضاً شخصيات بارزة مثل السيد محمد رشيد رضا، وعبدالحميد الزهراوي، ورفيق العظم، وحافظ السعيد، وعلي النشاشيبي، وغيرهم من قادة الحركة الإصلاحية العربية.
وكان شميّل يرى أن العلوم الحديثة هي الركيزة الأساسية التي قامت عليها الحضارة الغربية المتفوقة، ودعا إلى اقتباسها والأخذ بها دون تردد. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه نظرية التطور البيولوجي لداروين في تحقيق العلم والعدل والحرية والتقدم؟ ألا يمكن اعتبارها مجرد "صرعة" أو نزعة تقود إلى الحط من قدر الإنسان وتحويله إلى مرتبة الحيوانات، بعد أن كرمه الله وجعله خليفة في الأرض!
وفي مصر، بدأ أحمد لطفي السيد (1872-1963) مشروعه التغريبي بالدعوة إلى تبني قومية مصرية، منتمية إلى حضارات البحر الأبيض المتوسط، كأساس لهوية المصريين. كما دعا إلى استخدام اللغة العامية بدلاً من اللغة الفصحى، وتأثر بالمدرسة الليبرالية الفرنسية "المنكسرة" في أواخر القرن التاسع عشر، بعد هزيمة فرنسا أمام ألمانيا في حرب عام 1870.
ولعل هذا ما يفسر النزعة الانهزامية التي تجلت في مواقف لطفي السيد تجاه الاحتلال الإنجليزي لمصر، ودعوته إلى الانكفاء على الذات. ومع ذلك، فقد لُقّب لاحقاً بـ "أستاذ الجيل" (جيل المثقفين الليبراليين)، واعتُبر الأب الروحي لليبرالية المصرية.
أما سلامة موسى (1887-1958) فقد كان من رواد الفكر الاشتراكي في مصر، واستقى أيضاً من الثقافة الغربية، ودعا إلى استخدام العامية بدلاً من الفصحى، بل ذهب (وكذلك عبدالعزيز باشا فهمي) إلى المطالبة بكتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، معتبراً ذلك قفزة نحو المستقبل. ورغم تبريره لهذه الدعوة بانتشار الأمية بين أغلب المصريين، إلا أنها مثلت آنذاك شرخاً عميقاً في جدار الحضارة العربية الإسلامية ووعي الأمة، وبدا متأثراً بشكل كبير بالغرب وساخطاً على واقعه المجتمعي.
وكان سلامة موسى قد أمضى ثلاث سنوات في فرنسا، تعرف خلالها على أفكار فولتير (1694-1778) وكارل ماركس (1818-1883)، ثم انتقل بعد ذلك إلى إنجلترا، حيث مكث فيها أربع سنوات، وانضم إلى جمعية الاشتراكية الفابية، والتقى بأحد أهم مفكريها جورج برنارد شو (1856-1950)، الذي أشاد بمنهج وقدرة رسول الإسلام، ﷺ، على إيجاد حلول لمشكلات البشرية.
وقد تبنى سلامة موسى نظرية داروين في النشوء والارتقاء، وطرح أفكاراً متماهية تماماً مع أوروبا ومتعارضة بشكل حاد مع المجتمع، حتى أنه قال: "فلنولِّ وجهنا شطر أوروبا… ونجعل فلسفتنا وفق فلسفتها"، وقلل من شأن الدين باعتباره خاضعاً للتطور، فهو عنده مصدر بشري وليس مصدرًا إلهياً. وصاغ ذلك بقوله: "ليس للإنسان في هذا الكون ما يعتمد عليه سوى عقله، وأن يأخذ الإنسان مصيره بيده ويتسلط على القدر بدل أن يخضع له".
شارك طه حسين (1889-1973) في مرحلة تأثره الشديد بالغرب، وقبل عودته إلى مصر، في صياغة أطروحات التغريب، كما ذكر في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر": "إن الطريق واضحة بيِّنة مستقيمة لا عوج فيها ولا التواء، وهي واحدة فليس فيها تعدُّد، وهي أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم لنكون لهم أَندادًا، ولنكون شركاء لهم في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحب وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب".
وقد بدأ هذا الانبهار والتماهي التام لديه خلال دراسته في فرنسا (1914-1918)، وهناك فُتن بمنهج ديكارت في "الشك"، والتقى بعالم الاجتماع الفرنسي دوركايم (1858-1917) الذي أشرف على أطروحته: "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية".
دعاة التحديث والأسلمة
كان الصدر الأعظم والبيروقراطي العثماني المخضرم، خير الدين باشا التونسي (1820-1890)، من رواد الإصلاح والتحديث في القرن التاسع عشر، وتميزت أعماله بالتركيز على إصلاح الدولة والإدارة والحكم. ولا يمكن ذكر عصر التنظيمات دون الإشارة إلى أفكاره وأعماله وإصلاحاته، وقد سجل الكثير من أفكاره الإصلاحية في كتابه "أقوم المسالك لمعرفة أحوال الممالك". وتقوم حركة الإصلاح عند خير الدين باشا على مبدأين أساسيين:
الأول، ضرورة التجديد والاجتهاد في الشريعة الإسلامية، بما يتلاءم مع ظروف العصر وأحوال المسلمين، ويتفق مع ثوابت الشريعة، ودعا علماء الأمة إلى توسيع مفهوم السياسة الشرعية.
الثاني، ضرورة الأخذ بالمعارف وأسباب التقدم الحضاري الموجودة في أوروبا؛ لأنها الطريق الأمثل لنهضة المجتمع، وإذا كان هذا الطريق يتطلب تأسيس الدولة على الحرية والعدل، فإنهما أصيلان في الشريعة الإسلامية.
ودعا خير الدين باشا إلى الإصلاح الشامل على أساس العدل في حكم الرعية، ورفع مظاهر الظلم والجور عن طريق حكم يقوم على الشورى، وتعدد مؤسسات الحكم، وعدم انفراد شخص مهما بلغت قدرته وكفاءته وحسن سياسته بتصريف شؤون البلاد وإدارة أمور الرعية؛ لأن الاستبداد والانفراد بالسلطة يؤديان إلى التفريط في الحقوق.
واشترط أن تعي الأمة مسؤولياتها، وتُحْسِن ممارسة حريتها، وتراقب سير أمور الحكم، وتطالب بحقوقها. ومن أبرز إنجازاته صياغة دستور عام 1861، ومن أهم بنوده:
- الالتزام بمقتضيات وثيقة عهد الأمان الصادرة عام 1857.
- الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
- إنشاء "المجلس الأكبر" المكون من 60 عضواً معيّنين لمدة 5 سنوات. ومن صلاحياته وضع القوانين وتنقيحها وشرحها وتأويلها والموافقة على الأداءات ومراقبة الوزراء ودراسة مشروع الميزانية.
- إنشاء شبكة من المحاكم التي تباشر مهام القضاء.
كما أنشأ المدرسة الصادقية عام 1875 بهدف تجديد النهج التقليدي الذي كانت تتبعه جامعة الزيتونة، حيث دُرّست فيها اللغات والعلوم الرياضية والطبيعية.
وبدوره، يمثل الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) نموذجاً بارزاً للمفكرين المسلمين في زمن التحديث المبكر، خاصة بعد أن تجاوز مرحلة انبهاره المبكر بالحضارة الفرنسية، واضطلع بدور بناء في نهضة التعليم في مصر الحديثة.
وكان شيخ الجامع الأزهر الشيخ حسن العطار (1766-1853) قد رأى أن يقوم بإرساله مع بعثة فرنسا كإمام وواعظ لطلاب البعثة عام 1826. وقد سجل انطباعاته المبكرة حول الحضارة الغربية في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز". وقد أمضى الطهطاوي هناك خمس سنوات، ثم عاد إلى مصر وافتتح مدرسة للترجمة، والتي تحولت لاحقاً إلى "مدرسة الألسن".
كما أنشأ أقساماً للعلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية، وأصدر قراراً بتدريس المعارف والعلوم باللغة العربية، فتمكن بذلك من الجمع بين الأصالة والتحديث، وأصدر الجريدة الرسمية "الوقائع المصرية" باللغة العربية بدلاً من اللغة التركية.
وازدهرت الحركة العلمية في مصر على يد الطهطاوي، خاصة حركة الترجمة من اللغات الأخرى، وقام بتعريب القانون المدني الفرنسي كاملاً، إلا أن جهوده النهضوية لم تمنع الحكام من اضطهاده مرتين، ونُفي في إحداهما إلى طوكر بالسودان، وظل رغم ذلك دؤوباً في أعمال الترجمة والإنتاج الفكري.
وقد سار على نفس الدرب الشيخ حسين الجسر، أستاذ السيد محمد رشيد رضا، عندما جمع بين دراسة العلوم الشرعية والعلوم الرياضية والمعارف الطبيعية في المدرسة الوطنية الإسلامية في طرابلس بلبنان، مما يثير التساؤل حول الأسباب التي أدت إلى إجهاض هذه الجهود وعدم تعميمها على نطاق أوسع!
فهل كان المطلوب هو الاقتباس من الحضارة الغربية ومحاكاتها فحسب، دون الاهتمام بالبعد الثقافي للأمة وتراثها الحضاري؟!
لقد أراد الطهطاوي أن يقدم نموذجاً يحتذى به لمن جاءوا بعده، ممن يُنسب إليهم الفضل في الدعوة إلى تحرير المرأة المصرية، فقام بصياغة عقد زواجه بطريقة تلزمه بأن تكون زوجته طالقاً منه إذا تزوج عليها، ووعدها بأنه إذا استمرت معه على المحبة المعهودة، فإنه لن يتزوج بغيرها أبداً ولن يتمتع بالإماء والجواري.
وفي مصر، امتدت آثار الطهطاوي إلى العديد من المفكرين اللاحقين، كالأفغاني والكواكبي، اللذين ناديا بإصلاحات دستورية وسياسية، وكذلك الإمام محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا، ومنه إلى تلميذه حسن البنا. وكان محمد عبده قد وضع برنامجاً للحزب الوطني القديم خلال فترة الحركة العرابية، والذي تضمن:
"هذا الحزب يخضع للجناب الخديوي العالي، وهو مصمم على تأييد سلطته ما دامت أحكامه جارية على قانون العدل والشريعة حسب ما وعد به المصريين في سبتمبر /أيلول 1881، وقد قرن هذا الخضوع بالعزم الأكيد على عدم عودة الاستبداد والأحكام الظالمة التي أورثت مصر الذل، والإلحاح على الحضرة الخديوية، إذ يطلبون منها الاستقامة وحسن السلوك في جميع الأمور، وهم يساعدونه قلبًا وقالبًا، كما أنهم يحذرونه من الإصغاء إلى الذين يحسّنون إليه الاستبداد والإجحاف بحقوق الأمة ونكث المواعيد التي وعد بإنجازها".